Skip to content Skip to footer

القديس يعقوب الحمطوري

كنيستنا الأرثوذكسيَّة كنيسةٌ حيَّة، لأنَّها قائمةٌ على دمِ الشُّهداء القدِّيسين، الذين قدَّسهم الله وباركهم بدمه المهراق من جنبه على الصَّليب المقدَّس، الَّذي إذا ما عشنا أتعابه وآلامه نتمجَّد معه ونصير مشاركين له في الحياة الأبديَّة، مثلما مجَّد القدِّيسينَ أخصَّاءه. هؤلاء الشُّهداء كثرٌ في الكنيسة، وهذا كنزنا الَّذي نغترف منه كلَّ ما هو مفيد لحياتنا اليوميَّة.

وقد خصَّنا اللهُ، نحن الأنطاكيِّين، بشهداءَ قدِّيسين من بلادنا قدَّموا أعمالاً وتضحياتٍ بطوليَّة قلَّ نظيرُها. ونحن إذ نقدِّم لهم التكريمَ اللاَّئقَ والواجب نكرِّم بالتالي ربَّ الجهاد الشَّهيدَ الأوَّلَ يسوعَ المسيح مخلِّصَنا القائمَ من بين الأموات، الَّذي أحيانا ويحيينا وسيظلُّ ينفحنا حبورًا إلى الأبد، إذا ما حفظنا وصاياه وعملنا بها وكرَّمنا أصحابه.

لا بدَّ لنا في هذا المجال أن نذكر موضوع القدِّيس يعقوب الَّذي من دير السيَّدة-حمطوره.

اكتشاف خبر القديس يعقوب

منذ زمن بعيد، تقريبًا في الثمانينات من القرن المنصرم تمَّ العثور على خبر في كتاب السنكسار في المخطوط رقم 149 المتواجد في دير السيدة – البلمند ومفاده أنَّه في الثالث عشر من شهر تشرين الأوَّل «جهاد القديس يعقوب الَّذي من دير مار جرجس حماطوره الَّذي استُشهدَ بمدينةِ طرابلون التي موقعها بقرب البحر وفيها ضُربَ عنقه وبعد ذلك أحرقوه بالنَّار ومضا إلى رحمة الله» (المخطوط البلمنديّ 149 ).

أمَّا على صعيد التقوى الشَّعبيَّة فغالبيَّة النَّاس المحيطة بالدير كانت تخبر عن وجود راهب في الدَّير يدعى يعقوب، حيثُ كان الدَّير في تلك الحقبة خاليًا من الرُّهبان، ومن كان يعتني بالدير رجلٌ من قريةٍ مجاورة.

تمَّ إيجاد المخطوط على يد المهندس حسان خيرالله (كيرلّس) المعروف بحبِّه للقدِّيسين وإلمامه الكبير بسيرهم ومكان وجود رفاتهم وقد أمضى سنواتٍ ليست بقليلة في تجميع أخبارهم من المخطوطات الأصليَّة القديمة. فيخبرنا عن الطريقة العجائبيَّة التي وجد فيها القدِّيس:

« كانت مخطوطات دير حمطوره موجوده في مطرانيَّة جبل لبنان، وقد سمح لي المتربولويت جاورجيوس بتصويرها كلِّها، وقد صوَّرت ما وجدته مهمًّا، ولمَّا زرتُ الدير فيما بعد مع الأب بولس جبُّور تعرَّفت إلى الأب بندلايمون الَّذي أخبرني بوجود قدِّيس في الدَّير اسمه يعقوب ورد ذكره في مخطوط بلمنديّ وقع تحت يديه في الثمانينات، لكنَّه فقد فيما بعد فالمكتبة كانت في حالة فوضى خاصة زمن الحرب. ومع أنَّ الأرشمندريت توما أعاد البحث أيضًا إلاّ أنَّه لم يجد شيئًا.

ذهبت إلى البلمند وقد كانت الأمور أسهل مما توقَّعت. آنذاك كانت الدكتورة سعاد سليم هي المسؤولة.

فتحوا لي غرفة المخطوطات وكنت أملك جدولاً. عزلت 5 مخطوطات إذ توقَّعت أن أجده فيهم. واخترت أوَّلاً المخطوط 149. بدأت أقلِّب الأوراق وأذكر أنّ الأب بندلايمون سبق فأخبرني أنّ ذكره في تشرين. على كلّ حال بدأت من الأوّل، مذكِّرًا بأنِّي أعاني من مشاكل في النَّظر. لكنِّي شعرتُ أنَّ النعمة قد سهَّلت لي الأمور فقد وجدته بسرعةٍ وذلك جعلني أتأثَّر بعمق فلم يتخطَّ الوقت عشر دقائق. طلبت الإذن بتصوير الصفحة وقد حصلتُ عليه بسهولة. فأطلعتُ المتروبوليت جاورجيوس والأب بندلايمون بهذا الأمر.

التَّعييد للقدِّيس

رفع الأرشمندريت بندلايمون رسالةً إلى المتروبوليت جاورجيوس أعلمه عن العثور عن ذكر القدِّيس يعقوب في المخطوط 149 والخدمة التي نظمها له وإيقونة لتكريمه. فبارك المطران جورج العمل».

وقام الأب نقولا مالك بمراجعة الخدمة وضبط النصوص على الأوزان الأصليَّة.

وعليه فقد أقيمَت سهرانةٌ أولى احتفاليَّة سنة 2002 بحضور حشدٍ كبير من الكهنةِ والمؤمنين.

فالتعييد إذاً لم يأتِ بقرارٍ صادرٍ عن الدَّير الممثَّلِ آنذاك برئيسه بل ببركة صاحب السيادة جاورجيوس أطالَ الله بعمره. تمَّ تحديد العيد في 13 من تشرين الأوَّل كما يذكره المخطوط في ذكرى استشهاده.

وهنا نذكر أيضًا أنَّه في إحدى زيارات الأب بندلايمون لأبرشيّة حماه، مرَّ بدار المطرانيّة وكان قد اجتمع فيها أصحاب السيادة إيليّا مطران حماه، جاورجيوس مطران جبل لبنان، بولس يازجي مطران حلب، سابا إسبر مطران حوران، جورج أبو زخم مطران حمص. وجرى حديثٌ عن القدّيس يعقوب، فشهد المطران جورج خضر أنَّ الله قد أنعم على الأرشمندريت بندلايمون بأن يجد في ديره رفات القدّيس يعقوب والشهداء.

في وقت لاحق أتبع الأب بندلايمون الرسالة الأولى بأخرى يسأل فيها صاحب السيادة أن يتمَّ إعادة تقديم القدِّيس للمؤمنين وإدراجه في التقويم الأنطاكيّ وفقًا للأصول المتَّبعة (ببركة المجمع المقدَّس) وانسجامًا مع القول الرَّسوليّ: «ليكن كل شيء بلياقةٍ وترتيب».

اللافت أنَّ ذكر هذا القديس وحضوره لم يعودا محصورين في الدَّير فقط بل امتدَّا إلى بلدان كثيرة حيثُ يعيَّدُ له في فرنسا والولايات المتَّحدة وأستراليا وبريطانيا … فقد ترجمت خدمة عيده والابتهال له إلى اللغتين الإنكليزيّة والفرنسيَّة. أيضًا في العديد من الدول العربيَّة منها مصر والأردن وبعض الرعايا في فلسطين.

كما قامَ الأب المتوحِّد أثناسيوس السيمونوبتريتيّ ناظم تسابيح الكرسيّ القسطنطينيّ بنظم خدمة للقدّيس يعقوب في اللغة اليونانيَّة، بعدما أدرجه الأب مكاريوس السمونوبتريتي في الطبعة الجديدة لكتابه السنكسار.

كتابة إيقونة القديس

كما سبق وذكرنا، فللقدِّيس ظهورات كثيرة، منها ظهوره على شبَّانٍ ثلاث كانوا يصلُّون في كنيسة الدَّير. أثناء الليل وفيما هم ساجدون شعروا بحضور كاهنٍ مارٍّ بينهم وقد وقف في الباب الملوكيّ وباركهم ثمَّ مضى. أحد هؤلاء الشبَّان هو من سيغدو فيما بعد الأرشمندريت بندلايمون وقد استطاع رؤية وجهه بوضوح. (الآخران هما الأب سمير الياس حاليًّا، والسيِّد إيلي زيدان). هذا الظُّهور شكَّل عندهم تساؤلاً كبيرًا في من عساه يكون. عندما سأل الأرشمندريت بندلايمون القدِّيسَ باييسيوس عن الموضوع قالَ له هذا الأخير يبدو أنَّه قدِّيسٌ شهيد وسيُعلِن عن نفسه عندما تتضاعف حياةُ الصَّلاة في الدير ويحين الوقت. وهذا تمَّ بالفعل بعد انتظام الحياة الرَّهبانيَّة في الدَّير. رسمَ الأب بندلايمون إيقونةً للقدِّيس وتمَّ التأكُّد من دقَّة تفاصيل وجهه عن طريق امرأةٍ تعرَّفَت إليه عندما رأت الإيقونة بعد ظهوره لها.

العثور على بقايا القديس مع الشهداء

لا نعرف كيف تمَّ إحضار بقايا القدِّيس يعقوب إلى الدير. ما نقرأه في سير القدِّيسين أنَّ المسيحيِّين كانوا يتبعون الشهداء إلى ساحة الشهادة، وكانوا إمَّا يدفعون الأموال ليحصلوا على الرفات أو يسرقونها أو يتبعونها إذا ما رُميت في البحر ليلتقطوها عن الشاطئ. ما حدث مع القديس يعقوب غير مذكور. ما نعرفه أنَّهم أتوا به ودفنوه في مكانٍ سرِّيّ في الدَّير. ولم يدوَّن أيُّ شيء. تمَّ تناقل الحديث شفهيًا بأنَّ الديرَ يحوي كنزًا مخفيًّا.

قبل إعادة إحياء الحياة الرَّهبانيَّة في الدير سنة 1994، حاول الكثيرون البحث عن الكنزِ باعتقادهم أنَّه من الذهب. وقد حفروا سائر أرجاء أرضيَّة كنيسة السيِّدة ما عدا مكان وحيد حيثُ حفظَ اللهُ شهداءه مصونين من أيدي الجهلة.

ولمَّا لم يجدوا شيئًا كانوا يعيدون البلاط بطريقة عشوائيَّة ممَّا جعل أرضيَّة الكنيسة متعرِّجة، منحنية وصعبة التنظيف. مع انتظام الخدم الليتورجيَّة وبسبب طولها، غدا الوقوف في الكنيسة متعبًا ممَّا تطلَّب إصلاح أرضيَّتها وهنا بتدبير إلهيٍّ تمَّ العثور على رفات شهداء دير حمطوره وبينهم القدِّيس يعقوب.

ففي الثالث من شهر تمّوز عام 2008، أثناء الحفر تمَّ العثور على هياكلَ عظميَّة مدفونة في أرض الكنيسة في مكان غير مألوف. تمَّ العمل بدقَّةٍ متناهية ترافقه الصَّلاة، وتبيَّنَ أنَّ هناك أربعة هياكل عظميَّة اثنين في القسم الأماميّ من الكنيسة وطفلٌ يتقدَّمهم واثنين في القسم الخلفيّ. وقد أكَّد الطبيب أنَّ جزءًا من عظام الطفل موضوع في المائدة المقدَّسة.

أعلم الأب بندلايمون راعيَ الأبرشيَّة بالأمر، فطلبَ أن تجرى فحوصاتٌ طبِّيَّةٌ على العظام.

بعد تجهيز العظام تمّ تحديد وقت لاستقبال الرفات أوَّلاً في بلدة كوسبا للتبرُّك منها قبل نقلها إلى الدير. في البداية أبدى راعي الأبرشيَّة الرغبة في الحضور، لكنَّه تراجع فيما بعد خوفًا من النعرات الطائفيّة.

نقلت البقايا فيما بعد إلى دير السيِّده – حمطوره باحتفالٍ شعبيٍّ مهيب حضره لفيفٌ من كهنة الأبرشيَّة وأبرشيَّة طرابلس وزحله وعكار وكهنة من الأبرشيَّات السوريَّة. وعلى المحطَّة الأولى في كنيسة القديسين سرجيوس وباخوس في بلدة كوسبا توافدَ المؤمنون مدَّة ثلاث ساعات تقريبًا يقبِّلون الرفات ويتباركون بها.

جدير بالذكر أنَّنا في العادة الرَّهبانيَّة ندفن في التراب ثمَّ يتمُّ استخراج الرفات من الأرض بعد تحلُّلها ونغسلها قبل أن نودعها المدافن. فيما كان الأب بندلايمون يغسل رفات القدِّيسين المستخرَجة ظهرت بقع الدَّمِ على العظام كما فاحت رائحةُ الطيب، وهي إلى اليوم تبرز دائمًا خاصَّة من عظام القدّيس يعقوب والطِّفل الصغير.

بعضٌ من عجائبه

هي عديدة تمَّ تدوين البعض منها، وما خبرناه مع القدِّيس أنَّه كما ظلَّ مخبَّئًا في الأرض طيلةَ هذه السنين، فهو ما برح خفرًا يقوِّي ويساعد ويشفي المؤمنين بطريقةٍ سرِّيَّة متواضعة. فله شفاءات عديدة من داء السَّرطان، وهو يتشفَّع من أجل الذين يعانون من العقم. وقد تسمَّى على اسمه العديد من الأولاد. سنورد بعض العجائب.

إمرأة قال لها الطبيب أنَّ المولودَ سيأتي مشوَّهًا، فاضطربَت وقامت بزيارة الدير مع زوجها. وبعد الصَّلاة أمام رفات القديس يعقوب قرَّرا أن يبقيا على الصبيّ. فجاء يعقوب خلقةً كاملة.

في العيد الأوَّل للعثور على رفات شهداء حمطوره. حضر كاهنٌ من سوريا مع عائلته للاحتفال بالعيد، وفيما كان ابنهُ ذو الثلاث سنين يلعب قرب مكتبة البيع سقط في مكانٍ منزلق وفجأةً أمسكه أحدهم على طرف الصخر ومنعه من السقوط إلى الوادي. ركضَ أحد زوَّار الدير وعبر مكانًا خطيرًا وانتشل الصبيَّ المسمَّر في مكانه. ولمَّا سئل الصبيّ فيما بعد ماذا حدث له؟ قال أنَّه سقطَ وجاء الأبونا وأمسكه. الملاحظ أنَّ من نزلَ ليحمله هو أحد زوَّار الدير العلمانيِّين وليس أحد الرهبان.

عجيبةٌ في الجبل المقدَّس: قدَّم الأب بندلايمون من رفات القديس يعقوب لدير الفاتوبيذي في جبل آثوس. يومها كانت نوبةُ الراهب الكاهن ثيوفان، الَّذي كان يعاني من مشاكل في صوته حيثُ أنَّه اختفى. فناداه رئيسُ الدَّير وباركه برفات القديس يعقوب فاستعاد صوته للحال وعاد لخدمته ممجِّدًا الله.

كاهن في أبرشَّية أميركا قد سجَّل لنا حوادثَ شفائيَّة عديدة للقدّيس يعقوب في رعيَّته.

يشهدُ الناسُ لعجائبَ هذا القدِّيس وتدخُّله لإنقاذهم من مشاكل ومعضلاتٍ لعجزوا عن حلِّها لولا تدخُّله السريع. كما أنَّه غدا مصدر إلهامٍ وتعزيةٍ وتشديد للرهبان ليصمدوا بصبرٍ في جهادهم في هذا الدير المقدَّس في هذه الأزمنة الصَّعبة.

بركته تشملنا وتحفظنا.

شهداء دير حمطوره

في الثالث من تمّوز 2008 ، فيما كانت أعمال تجديد البلاط جارية، وجدت عظام إنسانية تحت تراب أرض الكنيسة وبان قبر صغير يحوي هيكلين عظميّين، تظهر عليهما آثار التعذيب والضرب، وبعض الدم المتجمد، وبعض دم سائل على الجمجمة، بالإضافة الى جزء من جمجمة طفل ذي ثلاث سنوات وبعض عظامه، وهيكلين آخرين تبيّن بعد الفحوصات المخبريّة الحديثة، التي أجراها الدكتور ناجي صعيبي، المتخصص بالطبّ الشرعي، أنّ الهيكلين يعودان الى 650 سنة، على أحدهما آثار حريق وقد قطعت هامته وفقدت الفقرة الثانية من رقبته. ممّا يدل حسب المواصفات التي يذكرها مخطوط السنسكار البلمندي، أنها للقدّيس يعقوب الحمطوري الذي كان في الخمسين من عمره، وكذلك رفيقه في الأربعين. أمّا الهياكل الأخرى فترجع الى 450 سنة تقريباً.

اعتبر الأقدمون هذه الرفات مقدّسة، فلم يدفنوها في مدافن عاديّة، بل في وسط الكنيسة، وبطريقة سريعة نتيجة الضغوطات والاضطهادات. كذلك وجدت تحت المائدة المقدّسة بعض عظام جمجمة الطفل؛ ممّا يدل على أن الأقدمين قد اعتبروهم شهداء. حين تعرّضت الكنيسة للتخريب، أعادوا تكريسها في 16 تشرين الثاني سنة 1894.

إن عدداً كبيراً من المؤمنين يزور الدير ويبارك بصلاة والدة الإله القدّيسة والقدّيس يعقوب الحمطوري.

واليوم بات تكريمه أكثر شيوعاً من ذي قبل، فكثيرون ممّن يباركهم القدّيس ورفاقه يرجعون الى الدير، ليدلوا بشهادة بسيطة مسجّلين للقدّيس شكرهم ومحبّتهم للرب القدّوس، الذي أعطانا إياه ورفاقه منارات ترشد الى طاعة الله ومحبّة القريب بما يغدق من أشفية ونعم.

وبعد بركة سيادة راعينا الجليل الميتروبوليت جاورجيوس الكلّيّ الطوبى، بات بإمكاننا أن نضيف الى طلباتنا وتذكاراتنا عبارة “الآباء شهداء حمطورة”، الذّين وجدت عظامهم في كنيسة الدير. وسنعيّد لهم بالإضافة الى القدّيس يعقوب في ذكرى العثور على بقاياهم الشريفة في الثالث من تمّوز.

فلتنفعنا صلواتهم، وليتمجّد الربّ في قدّيسيه، آمين.

AR