لمحات من تاريخ الدير
تعرّض الدير للاضطهاد زمن المماليك حيث استشهد القديس يعقوب الحمطوري.
دمّر العثمانيون الدير زمن فخر الدين المعني كما يوضح اسكندر عيسى المعلوف، وزاره الرحالةُ الروسيُّ المشهور باسيليوس بارسكي ( القرن 18) ودوّن عن مبانيه معلوماتٍ تفيد عن حجم البناء وأقسامِه.
وبحسبِ شهادةِ بعضِ المعمّرين، الذينَ عَرَفوا الديرَ أيامَ كانتْ حياتُهُ مزدهرةً، شَهِدوا بأن الرهبانَ كانوا يعلِّمونَ الزوارَ والعمّالَ والرعاةَ حولَهُم والحطّابينَ، الكتابةَ والحسابَ والقراءةَ، لا سيَّما في الكتبِ الكنسيَّةِ المتوفِّرة، التي كانوا ينسخونَها لمنفعةِ الرهبانِ والقاصدينَ، خاصَّةً كتبِ الآباءِ القدِّيسينَ التي ظلَّتْ مخطوطاتُها في الديرِ فترةً كبيرةً. ثم تبعثرَتْ لأنَّ القرَّاءَ لم يُعيدوها إلى الديرِ بعدَ أن تدمَّرَ القسمُ الأكبرُ منه سنةَ 1917، أوَّلاً بسببِ قصفِ العثمانيِّينَ الأتراك لمباني الدير بهدفِ تعطيلِه كونه يؤمِّن الأمنَ الغذائيَّ لسكَّان المنطقة، وبسببِ هزَّةٍ أرضيَّةٍ في تلك السَّنة جَعَلَتْهُ خَرِبًا غير صالحٍ للسكن.
فهَجَرَه الرهبانُ إلى دير القدّيس جاورجيوس الذي في أعلى الجبل حاملينَ مَعَهُمْ كافةَ موجوداتِ الكنيسةِ والدير. هناكَ شيَّدَ الرئيسُ إيروثيوس الكفوري ستَّةَ غرفٍ ورواقًا، وأعادَ بناءَ الكنيسةِ بمعاونةِ أبناءِ المنطقة. وباتَ الديرُ الأمُّ بلا ساكنٍ، يزورُهُ الرهبانُ من وقتٍ إلى آخر. فتعاقبَ على الاهتمام بالديرِ عددٌ من المؤمنينَ.
من رهبانِ تلكَ الحقبةِ الأبُ يعقوبُ من قريةِ كوسبا(القرن 20 – غير القديس يعقوب الحمَطوريّ)، هذا اشْتُهرَ بتقواهُ ومحبَّتِه الوافرةِ. فأعطاهُ الربُّ جهادًا مباركًا وصبرًا لا مثيلَ لهُ وبرزَتْ فيهِ النعمةُ بأعاجيب شفاءٍ كثيرةٍ بعد صلاةِ مباركة المياهِ. وباتَ تقليدًا ناشطًا أن يأخذَ الزوارُ من الماءِ المقدَّسِ لمزارعِهِم وأولادِهِم والمواشي، إذ كَثُرَتْ الأوبئةُ زمنَ الحربِ العالميَّةِ الكبرى وليسَ من دواءٍ فالتجأَ الكلُّ إلى رحمةِ الله.
التاريخ الحديث للدير
عام 1974، ترأّس الدير الأب فيليبُس عطالله المعروف بالأرشمندريت إسحق الآثوسيّ، محاولاً أن يعيد الحياة الرهبانيّة إلى جبل حمَطوره. وقد نجح في ذلك، واجتمع في الدير بعض المبتدئين والآباء الراغبين في الحياة النسكيّة. عُرف من بين تلامذته الأرشمندريت بندلايمون ( +2021)، الَّذي أعاد ترميم الدَّير وأحيا الحياة الرَّهبانيَّة فيه سنة 1994.
أُجبِرَ الأب فيليبُّس بسبب الحرب عام 1975، على مغادرةِ الدير إلى جبلِ آثوس في اليونان حيثُ نسكَ. فاتَّشَحَ بالإسكيم الملائكيّ باسم اسحق وتنسّك في قلاية القيامة التابعة لدير ستافرونيكيتا. ورقد هناك عام 1998 ونفسُه كانت تتوق لِعودة الحياة الرهبانيَّة إلى هذا الجبل الهدوئيّ العريق.
وكانت محاولةٌ للحياةِ الرهبانيةِ مجدَّدًا، مع الأب بولس لَحُّود لم تَدُمْ. في سنة 1993، احترقتْ كنيسةُ الديرِ في الأسبوعِ العظيمِ وانكشفتِ الإيقوناتُ الجداريَّةُ الجميلةُ والأثريَّةُ؛ ممّا دعا المطران جورج (خضر) إلى تكليفِ الأرشمندريت بندلايمون (فرح)، بترميمِهِ وِفْقَ خطَّةٍ مدروسةٍ وعلميّة.
وكان أولُ قدّاسٍ لافتتاحِ هذهِ الفترةِ الجديدةِ من عُمرِ الديرِ وعودةِ الحياةِ الرهبانيةِ المُشترَكةِ في الحادي والعشرينَ من تشرينَ الثاني سنة 1994 “عيدِ دخولِ السيدةِ إلى الهيكل”.
الدير كان خربًا بالكلِّيَّة حينذاك، تكاد لا توجدُ غرفةٌ فيه صالحةٌ للسكن غير الكنيسة المحترقة. العمل كثيرٌ وصعب. بدأت مذّاك أعمال الترميم وهي مستمرّة وتحتاج إلى الكثير من الدعم المّاديّ والتقنيّ والمعنويّ. الترميم يجري على أساسِ دراساتٍ وخططٍ مسبقة لإعادة الدير إلى شكله المسبق.
على أثر استلام الرئيس الجديد، بدأ توافد الراغبين في الحياة الرهبانيّة.
رهبانُ الدير يمارسون حياتهم الجهاديّة النسكيّة، بالصلاة والصوم والسهر والعمل، يتوسَّلون عند أقدام والدة الإله من أجل خلاصهم وخلاص العالمِ أجمع.
بالإضافة إلى الصلاة، يعملُ الرهبان في البناء واستصلاح الأراضي وصناعة الخمر والصناعات الغذائيّة ورسم الإيقونات وصناعة الشمع والبخور وغيرها من الصناعات الديريّة. وللدير نشاطٌ موسيقيّ وتسجيلاتٌ وترجماتُ كتبٍ صدر بعضٌ منها.
يجتمع في الدير الشبابُ المؤمن، خاصةً في الأعياد لإقامة الصلوات والخلوة والإعتراف والمشاركة في السهرانات التي تدوم طوال الليل في الأعياد الكبيرة المميَّزة.
هذا يرتب على الدير مهمّةَ متابعتهم إذ إنَّ معظمهم في عمر الشباب أي أنهم يحتاجون بالأكثر إلى خدمةٍ تبعدهم عن الشرور العصريّة والمتاهات المستوردة، وتقدّسهم. وذلك بإيجاد فرصٍ أوفر ليتعرّفوا على الخبرةِ الروحيّةِ المسيحيّة بشكلٍ عمليٍّ.
كم من شابٍّ قصد السيدة فكانت المجيبةَ السريعةَ لطلبِهِ تُسهِّلُ له أبوابَ العمل؟ وآخرُ يلتمسُ الراحةَ من تشتّتِ الفكر وضغطِ الحياة؟ وكم من أمٍّ رفعت صلاتها للعذراء من أجل مريضٍ أو شاردٍ في المتاهات؟ وكم من ثـنائيٍّ قصد الدير بعد زواجٍ طويل فأعطته العذراء طفلاً به تُبهج الحياة؟ وكل هؤلاء من المسيحيّين والمسلمين.
يقصدُ الديرَ عمالٌ نشيطون في شتى ورش البناء والترميم وكذلك بعض المهندسين الذين يُسَخِّرون عملهم وأوقاتهم للدرس والتحضير والتنفيذ.
بعد رقاد الأرشمندريت بندلايمون سنة 2021 تمّ انتخاب الأب يعقوب في الأول من تشرين الأول سنة 2022، رئيسًا على الدير.